الدكتور محمد ولد عابدين يكتب: وترى القمر بازغا فوق "البهكة"

بواسطة أبوه مولاي ادريس

كان الوقت عصر يوم خريفي ماطر آسر، رائق النفس رائع الطقس، والشمس ترسل أشعتها الذهبية تارة، فتنعكس على مرآة الماء، فتبدو الأرض كحسناء أخذت كامل زخرفها وزينتها، ورائحة العشب المبلل بالمطر تداعب الأنوف كأنها عطر باريسي زكي، وزخات مطر خفيف تتقاطر على إيقاع أنشودة السياب: مطر..مطر..مطر...

وسيارة(الراف 4) حديثة الصنع تمخر عباب الغدائر والأعشاب، تذرع باطن مدينة النعمة، وتجوب مواطن الصبا ومرابع الأنس، فتنكأ ما اندمل من جراح الذاكرة، وتفتح كوامن ولواعج الوجدان؛ فيفيض نهر دافق من الشوق والتحسر والتحنان إلى ماسلف من الأيام والأزمان.

ويتسلل خلسة من مسجل السيارة الصوت الملائكي للراحلة(ديمى) وهي تشدو :

يا زماناً في (......)سـمحاً    
أين مني الهوى وأين الفتون؟
يا زواريب حارتي.. خبئيني
بين جفنيك فالزمان ضنين
واعذريني إن بدوت حزيناً
إن وجه المحب وجه حزين!

في هذا الفضاء الخريفي الماتع، كلما أصبحت اكتحلت عيناك بمشهد خريفي آسر..سحائب ناصعة البياض تسبح في محيط أزرق، تظلل خضرة تغطى سطح الأرض..أبقار ترعى تعكس أعينها طمأنينة راسخة..أطفال يركضون ويلعبون على جنبات الغدران الرقراقة والجداول المنسابة، وقد ارتدت بساقيها خلاخل العشب، وتخضبت بحناء خريف ساحر كلوحة بهية وموناليزا آسرة لم تخطر ببال بابلو بيكاسو أو ليوناردو دافنشي.

وحين تمسى وتمد الوساد على متكئك الوثير، وترسل البصر ترى القمر بازغا فوق "البهكة ".. مرسلا أشعته الفضية الدافئة الحانية، فيعانق "الراجاط " على إيقاع لحن "نوفل" الأسطوري، ويصافح "انكادى " بحفاوة وحرارة تراث باذخ من ملاحم "اتهيدين الأميري" لأولاد امبارك، ويحتضن "الشوفية " بحنو أنغام "لبتيت" وعذوبة شدو " أهل حمبارة"..ودفئ أوتار "تدينيت أهل امبابه" الراقصة دون صخب.

على أديم تلك الأرض الطيبة المعطاء تلاقت منذ أمد سحيق فضاءات التاريخ ومداءات الجغرافيا، لترسم لوحة بهية اندغمت فيها كل الألوان، وتناغمت على مر العصور والأزمان، وامتدت مع أجيال الرحلة لتؤسس كينونة حضارية فريدة، وسيرورة تاريخية مجيدة؛ انبثقت من رحم تلك الصحراء وانبجست من عمقها شلال صفاء ونقاء، ونهر سخاء وعطاء.

إنها ولاية الحوض الشرقي بصلحائها وعلمائها وفرسانها وأمرائها..بحفاظها وزهادها وفقهائها وقرائها..بجبالها وهضابها وسهولها ووهادها .. من "ربوع الراجاط والبهكه والشوفية واظهر"..إلى "كلب انكادى وانواودار"..ومن سهول ووديان "كوش" الخصبة إلى مضارب "لبتان" ومغانى "أكيل" ومرابع " الكركار" الممرعة!..معالم جغرافية شامخة ومآثر تاريخية شاهدة على تراث موسيقي وأدبي زاهر، وتاريخ وجداني وعرفاني زاخر، من أسطورة " نوفل " إلى أيقونة "هنون بن بهدل"..ومن فروسية وحاتمية " ولد أعمر ولد اعلى" ..إلى كرامات ومناقب وحلم وصلاح "بودمعه الكنتي".. ومن رحلة "محمد يحي الولاتي "..إلى ملحمة وبطولات  "ولد عبدوك المشظوفي"..إلى تراجيديا "الكفيه ولد بوسيف"..وحنينه الدافق للملك السليب..وغنائياته العذبة وبوحه الشفيف..وصولا إلى غزليات الأمير "الشيخ محمد الأمين" وبكائياته الطللية ونسيبه الصافى الرقراق!...

مجرد غيض من فيض هذا الفضاء المضمخة ذاكرته بتراث باذخ من منابت الحلم والعلم والصلاح، ومغارس النخل والمجد الفواح ؛ حيث تطل لؤلؤة الشرق وسيدة الأرض، ترتدى اليوم حلة التاريخ الجميل وتلبس جوهرة المجد الأثيل؛ فيتعانق فيها ألق الزمان الغابر وسحر المكان الآسر، وهي تستقبل اليوم ضيوفها وزوارها بحرارة وحفاوة واحتفال واحتفاء.

يا حوض خير وأمجاد ونعمات
لا زلت في غسق التاريخ مشكاتي

كم مورد فيك مورود، ومنقبة
جلت ومعجزة سارت وآيات

ونعمة فيك قد علقتها شغفا
يانعمة الخير يا أم الكرامات

كلاك بالحفظ والنعماء ملهمتي
رب البريات والسبع السماوات

لله أرض لها في القلب عشعشة
فحبها سيط في قلبي وفي ذاتي

فتيك أرض العلا والعز، ما فتئت
في صفحة المجد عنوان الثقافات

د.محمد ولد عابدين 
أكاديمي وإعلامي