الشرائيحية والقبلية : موريتانيا بين أغلال الماضي وأفق المستقبل (الجزء الأول)

بواسطة محمد محمد الأمين

بين شرائح تُقَسِّم الناس بالميلاد، وقبائل تُقيّدهم بالولاء، وخطابات دينية زائفة تُبارك الامتياز وتُوهِن المساواة، تعيش موريتانيا مخاضًا عسيرا: ميلاد دولة المواطنة وسط رواسب من ماضٍ عنيد لا يزال يُثقل خطاها.

ففي معظم بلدان أفريقيا والعالم العربي وآسيا، لا تُقاس المسافات بالخطى وحدها؛ فثمّة ابعاد اجتماعية رمزيتها أشد عنادًا من الجغرافيا… مسافات تفصل الحاضر عن ماضِ متشبّثِ بأنماط ما قبل الدولة الحديثة وتجعل العلاقة بين هذه ومواطنيها واهنة ومتعثّرة.

 تحت ظلال القبيلة والشرائح والدين الزائف في عمق النسيج الاجتماعي الموريتاني، ما تزال الشرائحية التقليدية جاثمة كصخرة على صدر الزمن؛ تقسيمات صلبة: «اعرب»، «زوايا»، «إمعلمين»، "احراطين"... كما هو معروف عند "البيظان". كما نلقى في المكونات الزنجية لشعبنا تراتبيات مماثلة، على غرار منْ يطلق عليهم في اللغة البولارية: "لاواكوبي"، "توروبي"،  "واييلبي"، "ماتيوبي"...إلخ.

 تراتبيات تُمنح فيها المكانة بالميلاد لا بالجدارة، وتُرسَّخ في الذاكرة الجمعية عبر الأعراف والطقوس المتوارثة، حتى يُعَدّ الخروج عنها تمرّدًا مواربًا على المألوف، بل مجازفة غير مأمونة.

إلى جانب الشرائحية التقليدية المتجذّرة في مجتمعنا منذ قرون، أخذت تتشكّل شرائحية جديدة في ظلّ العصرنة وصعود الدولة الحديثة، تقوم على هوياتٍ مشتركة، مهنية وثقافية وسياسية ومجتمعية، تتجسّد في الأحزاب، والحركات الفكرية والإيديولوجية (إسلامية، بيئية، قومية...)، والحركات المجتمعية (نسوية، مثلية...). وقد عُرفت هذه الظاهرة، وإن بنسب متفاوتة، في معظم دول العالم تبعًا لخصوصيات كل بلد ومنطقة

. ومع ذلك،  فهي لا تخلو من مظاهر استنساخٍ للتراتبيات القديمة في أشكال جديدة؛ إذ تنشأ داخلها شبكاتٌ زبونيةٌ وانتهازية تتحكّم في توزيع الفرص السياسية (المناصب الانتخابية) والإدارية (الوظائف، الترقيات، العقود...)، مما يُضعف معيار الكفاءة لصالح منطق الولاء والانتماء إلى الدوائر المغلقة.

وبين الشرائحيّتَين، تبقى القبيلة سيّدة المسرح: مظلّةٌ وارفة تمنح الحصانة والوجاهة، وتوزّع الأدوار المفروضة ضمنًا كما لو كانت قدَرًا أزليًّا، مستندةً إلى تقاليد ومعتقدات زائفة تُفرّغ الدين من روحه التحرّرية، وتُحوّله إلى درعٍ يبارك الامتياز ويُشيطن كل مطالبةٍ بالعدالة تحت لافتة «الفتنة» و"الخروج عن الجماعة".

وهكذا، تتقاطع الشرائحية القديمة والجديدة تحت مظلّة القبيلة، مستعينةً بذرائع دينيّة وأخلاقية مؤدلجة لتذويب الفرد في الجماعة، وحبسه في البنى الطبقيّة، وإخضاعه لمنطق الطاعة المطلقة؛ فتتآزر القوى التقليديّة والحديثة على إبقاء المواطنة مؤجَّلة، والدولة معلَّقةً بين ماضٍ لم ينقضِ ومستقبلٍ لم يولد بعد.

(يتواصل)

 البخاري محمد مؤمل (اليعقوب)